وقد ذكر
ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح كلاماً قليلاً، ولكنه مفيد يؤيد ما سبق أن قلناه في هذا، فقد قال رحمه الله في المسألة الرابعة عشرة جواباً على سؤال: (هل عذاب القبر دائم أم منقطع)؟ (جوابها أنه نوعان: نوع دائم، سوى ما ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين، فإذا قاموا من قبورهم قالوا: ((
يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا ))[يس:52]، ويدل على دوامه قوله تعالى: ((
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا))[غافر:46]) أي: النار التي ذكرها الله تبارك وتعالى في حق آل فرعون، وقد تقدم في ذكر الأدلة على إثبات عذاب القبر، ودلالة الآية أن الله سبحانه وتعالى لم يستثن، وإنما قال: ((
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ))[غافر:46]، ففي هذا دليل على استمرار عذاب القبر إلى أن تقوم الساعة، فينتقلون من هذا العذاب الأدنى إلى عذاب أكبر منه وأغلظ وأعظم، وهو العذاب الدائم في الدرك الأسفل من النار.قال: (ويدل عليه أيضاً ما تقدم في حديث
سمرة الذي رواه
البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (
فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة ) وفي حديث
ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الجريدتين: (
لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا ) فجعل التخفيف مقيداً برطوبتهما فقط). يعني حديث اللذين يعذبان وما يعذبان في كبير، أي أنه كان في إمكانهما أن يحترزا على أقرب الأقوال في ذلك؛ لقوله في الأول: (
كان لا يستتر -وفي رواية: لا يتنزه- من البول ) فبإمكان الإنسان أن يتحرز من ذلك، وما الذي يمنعك من أن تستتر؟! فإذا كان الرجل -كما يفعل بعض الناس- يقضي حاجته أمام الناس فلماذا لا يستتر كما يفعل كل من رزقه الله الحياء من المسلمين؟! أو يتنزه بأن يتطهر بالماء أو بالحجارة كما شرع لنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا ليس بأمر كبير، ففي إمكان الناس أن يتحرزوا منه، ولكنهم لا يرونه مثل الزنا أو شرب الخمر أو أكل مال اليتيم أو أكل الربا، بل يرونه هيناً، لكن عامة عذاب أهل القبر منه، نسال الله العفو والعافية. و(
أما الثاني: فكان يمشي بالنميمة)، وترك النميمة يسير، فما الذي يشغلك بالناس؟ وما الذي يجعلك تصرف وقتك وجهدك في أن تنقل لهذا عن هذا، وتنقل لهذا عن ذاك؟! أما كان لك غنى في أن تذكر الله أو تسبح الله أو تتأمل في ملكوت الله، أو تكف لسانك عن ذلك ليكون صدقة؟! إذا لم تستطع فعل ذلك فكف عن الناس شرك. فالحاصل أن جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجريدتين على قبريهما.وقوله: (
لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا ) فيه دلالة على أن عذاب القبر دائم، ووجه الدلالة: أنه لم يقل: لعل الله أن يقطع عنهما العذاب، وإنما يخفف عنهما تخفيفاً ما دامتا رطبتين، فإذا جفتا ويبستا عاد عليهما العذاب كما كان -نسأل الله العفو والعافية-. قال: (وفي حديث
الربيع بن أنس عن
أبي العالية عن
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (
ثم أتى على قوم ترضخ رءوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء ) ).قال: (وفي الصحيح في قصة الذي (لبس بردين وجعل يمشي يتبختر فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)، وهذا أيضاً مذكور في أبواب ذم الكبر والخيلاء، نسأل الله العفو والعافية، فهذا الرجل ما تكبر وتبختر من أجل قصور عالية ومناصب كبيرة وأموال طائلة وألقاب عريضة، بل لأنه لبس حلة مكونة من بردين، وكان يرى أنها جميلة، فتبختر بها في مشيته استكباراً وخيلاء، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، نسأل الله العفو والعافية، فعذاب القبر في حقه مستمر إلى قيام الساعة. قال: (وفي حديث
البراء بن عازب في قصة الكافر: (
ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة) وصاحب النعيم كذلك يفتح له باب إلى الجنة فيراها حتى تقوم الساعة. ولا إشكال في أن من فتح له باب النعيم يتبقى على ذلك إن شاء الله، وقد نجا وجاز القنطرة، كما أن هذا الكافر الذي يفتح له باب العذاب أيضاً يظل على ذلك إلى قيام الساعة، والحديث ليس في الكافر فقط كما ذكر هنا، بل يشمل الفاجر والمنافق، وربما شمل من عظمت ذنوبهم وكانوا في هذا يعاملون قريباً من معاملة الكفار، وإن كان لا بد من أن يتمايز الفريقان، ففي آخر الأمر يخرج الله سبحانه وتعالى من النار من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، أما الكفار الذين هم أهلها فإنهم لا يحيون فيها ولا يموتون فيها، ومخلدون فيها نسأل الله العفو والعافية. قال: (رواه الإمام
أحمد ، وفي بعض طرقه: ثم يخرق له خرق إلى النار فيأتيه من غمها ودخانها إلى يوم القيامة).فهذا النوع الأول، ولا إشكال فيه، فالأدلة عليه كثيرة، ويأتي تفصيلها إن شاء الله في المبحث الخاص بذلك.